🔴 الذهب بين مُحددات الطلب التقليدية والتحركات الاستثنائية
🔴 الذهب ينتفض.. والعالم يعيد كتابة قواعد اللعبة النقدية
🔴 الذهب فولاذ لا يعرف الانهيار واحتمالات التراجع محطة
بقلم: [المستشار الاقتصاد .. د/ محمد شلبي]
في زمن تتقاطع فيه السياسة بالاقتصاد، والمال بالهيمنة، يطلّ الذهب مرة أخرى كأداة لقراءة ما وراء الأرقام. لم يعد ارتفاعه مجرد استجابة لحالات الركود أو الاضطراب، بل بات مؤشرًا على ما يمكن تسميته بـ(حركة تصحيح كبرى) في النظام النقدي العالمي.
فالأسواق تشهد منذ أشهر موجة صعود غير مسبوقة في أسعار الذهب، موجة لا تفسّرها محددات الطلب التقليدية وحدها، بل تكشف عن ما هو أعمق: تحوّل صامت في موازين القوة الاقتصادية، تقوده الكتلة الشرقية بقيادة الصين وروسيا، في مواجهة عالم تأسّس لعقود على عرش الدولار الأمريكي.
الذهب بين محددات الطلب التقليدية والتحركات الاستثنائية
لطالما كان الذهب مرآة لحالة الاقتصاد العالمي، يرتفع حين تتراجع الثقة، ويهدأ حين تستقر الأسواق. فالأزمات الكبرى, من أزمة الرهن العقاري عام 2008 إلى جائحة كورونا في 2020 كانت دائمًا تغذي الطلب على المعدن الأصفر باعتباره ملاذًا آمنًا. لكن ما نراه اليوم مختلف تمامًا: الأسعار تجاوزت حدود التحركات الطبيعية، لتصل إلى مناطق تعكس ما يشبه “التوتر النقدي العالمي”.
الاختلاف الجوهري هنا هو أن الارتفاع الحالي ليس مجرد انعكاس لأزمات مؤقتة، بل نتاج حراك مؤسسي ومدروس من القوى الاقتصادية الصاعدة. فالطلب لم يعد صادرًا فقط عن المستثمرين الأفراد أو صناديق التحوط، بل من البنوك المركزية نفسها حيث واصلت الصين وروسيا والهند شراء الذهب بوتيرة غير مسبوقة منذ 2022، كجزء من سياسة استراتيجية لإعادة تشكيل احتياطاتها وتقليل الاعتماد على الدولار. إنها ليست طفرة سوقية، بل رسالة نقدية تُكتب بالأوقيات لا بالكلمات.
الذهب ينتفض .. والعالم يعيد كتابة قواعد اللعبة النقدية
في قلب المشهد، تتحرك الكتلة الشرقية بخطى واثقة نحو نظام نقدي متعدد الأقطاب، بعدما تبيّن أن السيطرة على العملة الدولية أصبحت أداة للهيمنة السياسية أكثر من كونها وسيلة تبادل تجاري.
الصين عززت احتياطياتها من الذهب لأكثر من 2,300 طن، وروسيا قاربت الرقم ذاته، مع تسارع وتيرة المعاملات التجارية الثنائية بالعملات المحلية والذهب. بل إن بعض التقارير تشير إلى اتجاه لتسوية جزء من تجارة الطاقة بآليات جديدة مدعومة بالذهب، وهو تحول جوهري في معادلة التسعير العالمي.
في المقابل، تواجه الولايات المتحدة اختبارًا حقيقيًا لهيمنة الدولار، بعدما استُخدم كسلاح سياسي في العقوبات الاقتصادية. هذه التجربة دفعت العديد من الدول لإعادة التفكير في جدوى ربط ثرواتها بالدولار وحده. وهنا يظهر الذهب مجددًا باعتباره البديل الصامت، القادر على تحييد النفوذ النقدي الأمريكي دون إعلان صدام مباشر.
كما أن التحول نحو العملات الرقمية السيادية، مثل اليوان الرقمي، يأتي في الإطار ذاته: بناء منظومة تسويات جديدة، أكثر استقلالًا عن منظومة (سويفت) الغربية. وهكذا يصبح الذهب، مرة أخرى، المحور الذهبي الذي تدور حوله محاولات إعادة صياغة النظام المالي العالمي.
الذهب فولاذ لا يعرف الانهيار واحتمالات التراجع محطة
رغم توقعات بعض بيوت الاستثمار بأن الارتفاع السعري قد يشهد تصحيحات قصيرة، فإن المؤشرات الأساسية لا تزال تشير إلى اتجاه صعودي مستدام. الذهب اليوم لا يستمد قيمته من الطلب الفعلي فقط، بل من الدور الاستراتيجي الجديد الذي يلعبه في إدارة المخاطر النقدية, ففي ظل التضخم المزمن، وتراجع الثقة في السندات الأمريكية، وتزايد الحديث عن (نهاية عصر الفائدة المرتفعة)، يعود الذهب ليحتل مكانته التاريخية كمخزن حقيقي للقيمة.
قد تتراجع الأسعار مؤقتًا بفعل جني الأرباح أو تذبذب الأسواق، لكن القناعة الراسخة لدى البنوك المركزية والمستثمرين الكبار أن الذهب سيظل هو الأصل الأكثر أمانًا في مواجهة الاضطرابات النقدية المقبلة, إنه “الفولاذ المالي” الذي لا يصدأ مهما اشتدت العواصف، والملاذ الذي يتلألأ كلما اقترب العالم من نقطة التحول الكبرى في نظامه الاقتصادي.
خاتمة تحليلية
ما يحدث اليوم في سوق الذهب ليس مجرد موجة سعرية عابرة، بل إشارة مبكرة إلى ولادة نظام نقدي عالمي جديد، قد يكون أكثر عدلًا في توزيع القوة الاقتصادية، لكنه حتمًا أكثر تعقيدًا. فحين يتحرك الذهب بهذا الشكل، فالعالم لا يمر بأزمة، بل يستعد لتاريخ جديد, تاريخ تُكتب مقدماته الآن في بورصات الذهب، قبل أن تُعلن فصوله في اجتماعات البنوك المركزية والعواصم الكبرى.



































